11 - 05 - 2025

وجهة نظري| مدمن عمل يتعافى

وجهة نظري| مدمن عمل يتعافى

يعشق بعضنا العمل حد العبادة.. يتفانى فيه، يدمنه، يسيطر على كل عقله وأفكاره.. تدور حوله كل تفاصيل حياته.. يجد فيه متعته الوحيدة.. وفيه أيضا يكمن سر كآبته وشقائه. يجرى ويلهث لايضن بعمره ووقته وعلاقاته الاجتماعية وراحته وأجازته الأسبوعية أو حتى السنوية.. يحمل همه أينما رحل ويسيطر على كل حواسه أينما ذهب.. وهو يسير هائما على وجهه فى الشارع، وهو يقود سيارته، وهو يتناول طعامه، قبل أن ينام وأول مايستيقظ، بل وفى أحلامه أيضا التى غالبا تعكس تفاسيرها مايكمن فى عقله الباطن من هموم وقلق وانشغال بذلك العمل الذى عشقه حد الإدمان.. بل هو فعلا نوع من الإدمان كما صنفه بعض الأطباء النفسيين، ومنهم الطبيب الأمريكى بريان روبنسون، والذى عرف مدمن العمل بأنه الشخص الذى يحلم بالعودة للعمل وهو يمارس رياضة التزحلق، بينما العامل السليم هو الشخص الذى يكون فى العمل ويحلم بممارسة تلك الرياضة.. الطريف أن روبنسون نفسه الذى تجاوز الستين لم يسلم من إدمان العمل، لكنه نجح فى علاج نفسه فاصبح مدمن عمل يتعافى كما وصف حالته .

ربما لايبدو إدمان العمل مرضا خطيرا، لكنه من المؤكد أن آثاره النفسية والإجتماعية لاتقل خطرا عن الأمراض النفسية الأخرى.. فالقلق والضغوط النفسية التى تقع على مدمن العمل تقوده للوقوع فريسة سهلة للملل والرتابة والكآبة والإحباط والإكتئاب بل والتفكير في الإنتحار وربما الإقدام عليه أيضا، وهو ما أكدته كثير من الدراسات آخرها مانشرته جمعية القلب الأمريكية التى أكدت على أن العمل لمدة عشر سنوات متتالية أو أكثر، يزيد من فرص الإصابة بالسكتة الدماغية، بينما أكدت دراسة أخرى اجريت العام الماضى أن الأشخاص الذين يعملون أكثر من 45 ساعة اسبوعيا هم أكثر عرضة للإصابة بمرض السكري.

بالطبع كل هذه المخاطر لا تجد آذانا صاغية لمدمنى العمل، خاصة أولئك الذين وصلوا لحالة ميؤوس منها، مثلما نتندر جميعا على الشعب اليابانى الذى تعانى خمس قوته العاملة من إدمان العمل لدرجة الموت والإقدام على الانتحار.

ولأن شعبنا واع، فقلما ظهر فيه ذلك النوع من إدمان العمل، وإذا كان المسؤولون لايملون من معايرة الشعب بأنه كسول وخامل ويهرب من العمل ولايتقنه ويتفنن فى إضاعة الوقت وأنه لايعمل أكثر من عشرين دقيقة يوميا، ولم يدرك هؤلاء فطنة الشعب الواعى الذى أراد الحفاظ على صحته وتجنب الوقوع فى خطر الإدمان، خاصة وأن الدولة تتبنى الآن حملة ضروسا لمكافحة الإدمان، وليس مستبعدا أن يتعرض مدمنو العمل للمساءلة وتوقيع الجزاء وأقصى عقاب عليهم وهو الفصل من العمل الذى أدمنوا عشقه.

وبعيدا عن التهكم، فمن المؤكد أن وراء كسل وعدم جدية وإهمال البعض منا لعمله اسباب كثيرة من المهم ألا نهملها تماما، مثلما نهتم بالبحث عن الأسباب التى تدفع مدمنى العمل ليس إلى التعافى والتوازن وإنما للتوقف تماما عنه.

ما الذى يدفع هؤلاء للكسل والخمول بعدما ظلوا طيلة عمرهم شعلة نشاط! ما الذى يدفعهم لكراهية الذهاب لأماكن عملهم بعدما كانت من أكثر الأماكن المحببة إليهم! ما الذى دفعهم للصمت واليأس والانزواء، بعدما ملأوا أماكن عملهم نشاطا وحركة وصخبا؟ ما الذى أطفأ بريق حماسهم وتألقهم وإبداعهم؟ ما الذى فرض التعتيم على رؤاهم وآرائهم وسفه من أفكارهم وأحلامهم؟ من الذى وأد آمالهم وكتم أصواتهم وفرض عليهم حلما واحدا وصوتا واحدا ورأيا واحدا؟

ما الذى أجبرهم على التقوقع وإيثار السلامة وغلق الباب فى وجه ريح عاتية لاترحم؟

آثر الكل السلامة، من أدمن العمل ومن أهمله، بعدما أيقن الجميع أنه ليس بالعمل وحده تحيا وتتقدم وترتقى فى عملك، وأن أشياء أخرى أهم كثيرا من العمل بها وفيها يكمن سر كل نجاح.. وتلك هى المشكلة.
--------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

قانون الإيجار القديم .. لغم لا يحمد عقباه